[center]حسن الخاتمة وسائلها وعلاماتها والتحذير من سوء الخاتمة
فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد المطلق ( الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء وأحصى كل شيء عدداً رحم من شاء من عباده فهيأ لهم في الدنيا ما يرفع به درجاتهم في الآخرة فثابروا على طاعته واجتهدوا في عبادته إن أصابتهم سراء شكروا فكان خيراً لهم وإن أصابتهم ضراء صبروا، فكانوا ممن قال الله فيهم: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر:10]. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا… أما بعد: فإن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن استغلاله فيما ينفعه في دار القرار فقد ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله في المعاصي والسيئات حتى لقى الله على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، وكم حسرة تحت التراب، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سبباً في هلاكه، قال ابن مسعود: المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه. [البخاري 11/88،89 ومسلم أيضاً]. وكم شخص أصر على صغيرة فألفها وهانت عليه ولم يفكر يوماً في عظمة من عصاه فكانت سبباً في سوء خاتمته، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات [البخاري 11/283]. وقد نبه الله في كتابه جميع المؤمنين إلى أهمية حسن الخاتمة، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [سورة آل عمران، آية 102]. وقال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) [سورة الحجر، آية: 99]. فالأمر بالتقوى والعبادة مستمر حتى الموت لتحصل الخاتمة الحسنة وقد بين صلى الله عليه وسلم أن بعض الناس يجتهد في الطاعات ويبتعد عن المعاصي مدة طويلة من عمره ولكن قبيل وفاته يقترف السيئات والمعاصي مما يكون سبباً في أن يختم له بخاتمة السوء، قال صلى الله عليه وسلم: "وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" [البخاري 11/417 ومسلم برقم: 2643]. وورد في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رجلاً من المسلمين في إحدى المعارك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلى بلاءً شديداً فأعجب الصحابة ذلك وقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه من أهل النار" فقال بعض الصحابة: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه سأنظر ماذا يفعل فتبعه، قال فجرح الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فرجع الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: "وما ذاك؟" قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة" وفي بعض الروايات زيادة "وإنما الأعمال بالخواتيم" رواه البخاري ومسلم. وقد وصف الله سبحانه عباده المؤمنين بأنهم جمعوا بين شدة الخوف من الله مع الإحسان في العمل فقال: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون. والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون. والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) [سورة المؤمنون آية 57- 61]. وقد كانت هذه حالة الصحابة رضي الله عنهم، وقد روى أحمد عن أبي بكر الصديق أنه قال: "وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن وكان رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد" وكان علي بن أبي طالب يشتد خوفه من اثنتين طول الأمل واتباع الهوى قال: "فأما طول الأمل فينسي الآخرة وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وكان يقول: ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة قد أسرعت مقبلة ولكل واحدة منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل". وقد كان موت الفجأة مذموماً في الإسلام لأنه يباغت صاحبه ولا يمهله فربما كان على معصية فيختم له بالخاتمة السيئة. وقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة خوفاً شديداً، قال سهل التستري: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال: (وقلوبهم وجلة). وينبغي أن يكون الخوف من سوء الخاتمة ماثلاً أمام عين العبد في كل لحظة لأن الخوف باعث على العمل وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة" [الترمذي برقم 2452]. لكن إذا قاربت وفاة الشخص وأشرف على الموت فينبغي له حينئذ أن يغلب جانب الرجاء وأن يشتاق إلى لقاء الله فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل" [مسلم برقم 2877]. لكن كثيراً من جهلة المسلمين اعتمدوا على سعة رحمة الله وعفوه ومغفرته فاسترسلوا في المعاصي ولم ينتهوا عن السيئات بل جعلوا علمهم بهذه الصفات من أعظم الدواعي على الاستمرار على المعاصي، وهذا خطأ واضح واستدلال موصل للهلاك فإن الله غفور رحيم وشديد العقاب كما صرح بذلك في كتابه في كثير من المواضع فقال جل من قائل: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم) [سورة الحجر، آية 49-50]. وقال: (حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) [سورة غافر آية 1-3]. قال معروف الكرخي: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق. وقال بعض العلماء: من قطع عضواً منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا. وينبغي للمسلم أن يحرص على أن يتخلص من ديون الناس ومظالمهم فإن ما كان للعبد عند أخيه سيطلبه منه يوم القيامة لا محالة، فإن كانت له حسنات أخذ منها وإن لم يكن له حسنات أخذت من سيئاته وطرحت عليه وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه. وسنبين هنا الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة بإيجاز. أولاً: التسويف بالتوبة: والتوبة إلى الله من جميع الذنوب واجبة على كل مكلف كل لحظة كما يدل عليه قوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) [سورة النور، آية: 31]. وكان صلى الله عليه وسلم وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخرن يتوب إلى الله كل يوم مائة مرة. روى الأغر المزني قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة" [مسلم برقم 2702]. وقد بين صلى الله عليه وسلم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له [ابن ماجة برقم 4250 وإسناده حسن]. ومن أنجح حيل إبليس التي يحتال بها على الناس التسويف في التوبة فيوسوس للعاصي بأن يتمهل في التوبة فإن أمامه زمناً طويلاً ولو تاب الآن ثم رجع لا يمكن أن تقبل توبته بعد ذلك فيكون من أصحاب النار، أو يوسوس له بأنه إذا بلغ الخمسين أو الستين مثلاً عليه أن يتوب توبة نصوحاً ويلزم المسجد ويكثر القربات أما الآن فإنه في شبابه وزهرة عمره فليمتع نفسه ولا يشق عليها بالتزام الطاعات من الآن. هذه بعض مكائد إبليس في التسويف في التوبة. قال بعض السلف الصالح: أنذركم سوف، فإنها أكبر جنود إبليس، ومثل المؤمن الحازم الذي يتوب إلى الله من كل ذنب وفي كل وقت خوفاً من سوء الخاتمة ومحبة لله. والمفرط المسوف الذي يؤخر توبته كمثل قوم في سفر دخلوا قرية فمضى الحازم فاشترى ما يصلح لتمام سفره وجلس متأهباً للرحيل. أما المفرط فإنه يقول: كل يوم سأتأهب غداً حتى أعلن أمير القافلة الرحيل ولا زاد معه، وهذا مثل للناس في الدنيا فإن المؤمن الحازم متى ما جاء الموت لم يندم أما العاصي المفرط فإنه يقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت… ثانياً: طول الأمل: وهو سبب شقاء كثير من الناس حين يخدعه الشيطان فيصور له أن أمامه عمراً طويلاً وسنين متعاقبة يبني فيها آمالاً شامخة فيجمع همته لمواجهة هذه السنين ولبناء هذه الآمال وينسى الآخرة ولا يتذكر وإذا ذكره يوماً برم منه لأنه ينغص عليه لذاته ويكدر عليه صفو عيشه، وقد حذرنا منه الرسول صلى الله عليه وسلم، أشد التحذير فقال: "إن أشد ما أخاف عليكم خصلتان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فإنه الحب للدنيا" [رواه ابن أبي الدنيا بسند ضعيف]. فإذا أحب الإنسان الدنيا أكثر من الآخرة آثرها عليها واشتغل بزينتها وزخرفها وملذاتها عن بناء مسكنه في الآخرة في جوار الله في جنته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ويظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى الأعمال الصالحة واغتنام أوقات العمر فإن الأنفاس معدودة والأيام مقدرة وما فات لن يعود وعلى الطريق عوائق كثيرة بينها صلى الله عليه وسلم حينما قال: "بادروا بالأعمال سبعاً هل تنظرون إلا إلى فقر منس أو غنى مطغ أو مرض مفسد أو هرم مفند أو موت مجهز أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" [الترمذي برقم 2408 وقال: حديث غريب حسن]. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" رواه البخاري 11/190-200]. وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين إلى ما يبعد عنهم طول الأمل ويبصرهم بحقيقة الدنيا، فأمر بتذكر الموت وبزيارة القبور وبتغسيل الموتى وتشييع الجنائز وعيادة المرضى وزيارة الصالحين فإن كل هذه الأمور توقظ القلب من غفلته وتبصره بما سيقدم عليه فيستعد له وسنتكلم عن ذلك بإيجاز: أ - أما ذكر الموت دائماً فإنه يزهد في الدنيا ويرغب في العمل الصالح وعدم الركون إلى الشهوات المحرمة في الدنيا الفانية وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا من ذكر هادم اللذات" [الترمذي برقم 2409 وقال: حديث غريب حسن ورواه ابن ماجة برقم 4258]. وعن ابن عمر قال: قال رجل من الأنصار: من أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم استعداداً له أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة" [رواه ابن ماجة برقم 4259 بسند ضعيف مختصراً. ورواه أيضاً ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح جيد قاله العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 4/451]. ثم يفكر الإنسان في الموتى ألم يكونوا أقوياء الأبدان يملكون الأموال ويأمرون وينهون، واليوم قد تسلط الدود على أجسادهم فنخرها وعلى عظامهم فبددها ثم يفكر هل له أن يسلم من الموت أم أنه سيصل إلى ما وصل إليه أولئك فيستعد لتلك الدار ويتأهب بالأعمال الصالحة فإنها العملة النافقة في الآخرة… ب - أما زيارة المقابر فإنها عظة بليغة للقلوب فإذا رأى الإنسان المساكن المظلمة المحفورة ورأى هذه النهاية التي يحثو فيها أحباء الميت عليه التراب بعد إدخاله في لحد ضيق وإغلاقه عليه بلبنات من طين ثم يرجعون عنه ويقتسمون أمواله ويتملكون مخصصاته وتزوج نساؤه وينسى بعد مدة يسيرة بعد أن كان صاحب الكلمة في البيت يأمر فيطاع وينهى فلا يعصى، فإذا زار المؤمن المقبرة وتفكر في ذلك أدرك فائدة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت" [مسلم برقم 976]. ج - أما تغسيل الموتى وتشييع الجنائز فإن في تقليب الجسد على خشبة المغسلة عظة بليغة إذ هو في حال حياته وقوته لا يستطيع أحد أن يقلبه ولا أن يدنو منه إلا بإذنه، وربما كان شديد البطش عظيم الهيبة وقد صار بالموت جسداً خامداً لا حراك به يقلبه الغاسل كيف يشاء. وقد كان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول والآخر لا عقل له، وكان عثمان رضي الله عنه إذا شيع جنازة ووقف على القبر بكى فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي إذا وقفت على القبر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد" رواه أحمد الترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه. د -أما زيارة الصالحين فإنها توقظ القلب وتبعث الهمة فإن الزائر يرى الصالحين وقد اجتهدوا في العبادة وتنافسوا في الطاعة لا غاية لهم إلا رضى الله ولا هدف لهم إلا الفوز بجنته معرضين عن التفاني على الدنيا والاشتغال بها لأنها معوقة عن السير في ذلك الطريق الشريف، وقد أرشد الله نبيه أن يصبر نفسه مع هؤلاء: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً) [سورة الكهف: آية 28]. وقيل للحسن: يا أبا سعيد كيف نصنع أنجالس أقواماً يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمن خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك خوف. ثالثاً حب المعصية وإلفها واعتيادها فإذا ألف الإنسان معصية من المعاصي ولم يتب منها فإن الشيطان يستولي على قلبه وتستولي على تفكيره حتى في اللحظات الأخيرة من حياته فإذا أراد أقرباؤه أن يلقنوه الشهادة ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله طغت هذه المعصية على تفكيره فتكلم بما يفيد انشغاله بها وإليك بعض قصص هؤلاء. رجل كان يعمل دلالاً في السوق ولما حضرته الوفاة لقنه أولاده الشهادة فكانوا يقولون له قل: لا إله إلا الله فيقول أربعة ونصف أربعة ونصف. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فقال: يا رب قائلة يوما وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فجعل يغني [الجواب الكافي 96]. وربما أدركه الموت في المعصية نفسها فيلقى الله على تلك الحال التي تغضبه وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من مات على شيء بعثه الله عليه" [رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي]. رابعاً الانتحار: فإذا أصاب المسلم مصيبة فصبر واحتسب كانت له أجراً وإن جزع وتضايق من الحياة ورأى أن أحسن طريق له أن يتخلص به من هذه المشاكل هو الانتحار فقد اختار المعصية وأسرع إلى غضب الله وقتل نفسه بدون حق وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعن نفسه يطعنها في النار" وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهد رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحه فقيل له: يا رسول الله الذي قلت له آنفاً أنه من أهل النار فإنه قد قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إلى النار" فكاد بعض المسلمين أن يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل له إنه لم يمت ولكن به جراح شديدة فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالاً فنادى في الناس أنه لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" [البخاري 6/125 ومسلم برقم 111]. بشائر تدل على حسن الخاتمة نبه النبي صلى الله عليه وسلم على بشائر تدل الخاتمة إذا كانت وفاة العبد مع واحدة منها كان ذلك فألا طيباً وبشارة حسنة منها: 1- نطقه بكلمة التوحيد عند الموت فقد روى الحاكم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" [أبو داود 3116 والحاكم 1/351 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي]. 2- أن يموت شهيداً من أجل إعلاء كلمة الله قال تعالى: ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) [سورة آل عمران آية 169-171]. 3- أن يموت غازيا في سبيل الله، أو محرماً بحج، قال صلى الله عليه وسلم: "من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد" رواه مسلم وأحمد، وقال صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقّعته ناقته: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" [مسلم برقم 1206]. 4- أن يكون آخر عمله طاعة الله فقد روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة" [رواه أحمد 5/391]. 5- الموت في سبيل الدفاع عن الخمس التي حفظتها الشريعة وهي الدين والنفس والمال والعرض والعقل. عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد" [رواه أبو داود برقم 4772 والترمذي برقم 1418و 1421]. 6- أن يموت صابراً محتسباً بسبب أحد الأمراض الوبائية وقد نبه النبي صلى اله عليه وسلم إلى بعضها فمنها: I- الطاعون: روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون شهادة لكل مسلم" [البخاري 10/156-157]. II- السل: روى راشد بن حبيش قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قتل المسلم شهادة والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة والسل شهادة" [رواه أحمد 3/289]. ج- داء البطن: روى أبو هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن مات في البطن فهو شهيد" [رواه مسلم برقم 1915]. د- ذات الجنب: روى جابر بن عتيك عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وصاحب ذا الجنب شهيد" وسيأتي بتمامه بعد قليل. 7- موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها: روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة يجرها ولدها بسرره إلى الجنة" [رواه أحمد 4/201و 5/323]. 8- الموت بالغرق والحرق والهدم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم" [الترمذي برقم 1063 وروى نحوه مسلم برقم 1915]. وعن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد والحرق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة" [رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي]. 9- الموت ليلة الجمعة أو نهارها: روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر" [رواه أحمد 2/176 والترمذي برقم 1080 وقال: حديث غريب وليس إسناده بمتصل]. 10- عرق الجبين عند الموت: فقد روى بريدة عن الحصيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن يموت بعرق الجبين" [رواه الترمذي برقم 982 والنسائي 4/6 وسنده حسن]. خاتمة: وفي نهاية هذا اللقاء يحسن بنا أن نوجز الوسائل التي جعلها الله سبباً في حسن الخاتمة وهي: 1- تقوى الله في السر والعلن والتمسك بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو سبيل النجاة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [سورة آل عمران آية 102]. وأن يحذر العبد من الذنوب أشد الحذر فإن الكبائر موبقات وإن الصغائر مع الإصرار تتحول إلى كبائر وكثرة الصغائر مع عدم التوبة والاستغفار ران على القلب. قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقرات الذنوب كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه" [رواه احمد 5/331]. 2- المداومة على ذكر الله فمن داوم على ذكر الله وختم به جميع أعماله، وكان آخر ما يقول من الدنيا لا إله إلا الله نال بشارة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" [أبو داود 3116 والحاكم 1/351 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي]. وروى سعيد بن منصور عن الحسن قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: "أن تموت يوم تموت ولسانك رطب من ذكر الله" [المغني لابن قدامة 2/450]. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم في جنتك وجوارك وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
.
فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن محمد المطلق ( الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية )
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء وأحصى كل شيء عدداً رحم من شاء من عباده فهيأ لهم في الدنيا ما يرفع به درجاتهم في الآخرة فثابروا على طاعته واجتهدوا في عبادته إن أصابتهم سراء شكروا فكان خيراً لهم وإن أصابتهم ضراء صبروا، فكانوا ممن قال الله فيهم: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) [الزمر:10]. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا… أما بعد: فإن نصيب الإنسان من الدنيا عمره، فإن أحسن استغلاله فيما ينفعه في دار القرار فقد ربحت تجارته، وإن أساء استغلاله في المعاصي والسيئات حتى لقى الله على تلك الخاتمة السيئة فهو من الخاسرين، وكم حسرة تحت التراب، والعاقل من حاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله وخاف من ذنوبه قبل أن تكون سبباً في هلاكه، قال ابن مسعود: المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه. [البخاري 11/88،89 ومسلم أيضاً]. وكم شخص أصر على صغيرة فألفها وهانت عليه ولم يفكر يوماً في عظمة من عصاه فكانت سبباً في سوء خاتمته، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: إنكم تعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات [البخاري 11/283]. وقد نبه الله في كتابه جميع المؤمنين إلى أهمية حسن الخاتمة، فقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [سورة آل عمران، آية 102]. وقال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) [سورة الحجر، آية: 99]. فالأمر بالتقوى والعبادة مستمر حتى الموت لتحصل الخاتمة الحسنة وقد بين صلى الله عليه وسلم أن بعض الناس يجتهد في الطاعات ويبتعد عن المعاصي مدة طويلة من عمره ولكن قبيل وفاته يقترف السيئات والمعاصي مما يكون سبباً في أن يختم له بخاتمة السوء، قال صلى الله عليه وسلم: "وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" [البخاري 11/417 ومسلم برقم: 2643]. وورد في حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رجلاً من المسلمين في إحدى المعارك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبلى بلاءً شديداً فأعجب الصحابة ذلك وقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه من أهل النار" فقال بعض الصحابة: أينا من أهل الجنة إن كان هذا من أهل النار، فقال رجل من القوم: أنا صاحبه سأنظر ماذا يفعل فتبعه، قال فجرح الرجل جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه فرجع الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله، قال: "وما ذاك؟" قال: الرجل الذي ذكرت آنفاً أنه من أهل النار فأعظم الناس ذلك فقلت أنا لكم به فخرجت في طلبه حتى جرح جرحاً شديداً فاستعجل الموت فوضع نصل سيفه بالأرض وذبابه بين ثدييه ثم تحامل عليه فقتل نفسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة" وفي بعض الروايات زيادة "وإنما الأعمال بالخواتيم" رواه البخاري ومسلم. وقد وصف الله سبحانه عباده المؤمنين بأنهم جمعوا بين شدة الخوف من الله مع الإحسان في العمل فقال: (إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون. والذين هم بآيات ربهم يؤمنون. والذين هم بربهم لا يشركون. والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون. أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون) [سورة المؤمنون آية 57- 61]. وقد كانت هذه حالة الصحابة رضي الله عنهم، وقد روى أحمد عن أبي بكر الصديق أنه قال: "وددت أني شعرة في جنب عبد مؤمن وكان رضي الله عنه يمسك بلسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد" وكان علي بن أبي طالب يشتد خوفه من اثنتين طول الأمل واتباع الهوى قال: "فأما طول الأمل فينسي الآخرة وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق وكان يقول: ألا وإن الدنيا قد ولت مدبرة والآخرة قد أسرعت مقبلة ولكل واحدة منها بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل". وقد كان موت الفجأة مذموماً في الإسلام لأنه يباغت صاحبه ولا يمهله فربما كان على معصية فيختم له بالخاتمة السيئة. وقد كان السلف الصالح يخافون من سوء الخاتمة خوفاً شديداً، قال سهل التستري: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال: (وقلوبهم وجلة). وينبغي أن يكون الخوف من سوء الخاتمة ماثلاً أمام عين العبد في كل لحظة لأن الخوف باعث على العمل وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة" [الترمذي برقم 2452]. لكن إذا قاربت وفاة الشخص وأشرف على الموت فينبغي له حينئذ أن يغلب جانب الرجاء وأن يشتاق إلى لقاء الله فإن من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. قال صلى الله عليه وسلم: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل" [مسلم برقم 2877]. لكن كثيراً من جهلة المسلمين اعتمدوا على سعة رحمة الله وعفوه ومغفرته فاسترسلوا في المعاصي ولم ينتهوا عن السيئات بل جعلوا علمهم بهذه الصفات من أعظم الدواعي على الاستمرار على المعاصي، وهذا خطأ واضح واستدلال موصل للهلاك فإن الله غفور رحيم وشديد العقاب كما صرح بذلك في كتابه في كثير من المواضع فقال جل من قائل: (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم) [سورة الحجر، آية 49-50]. وقال: (حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم. غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب) [سورة غافر آية 1-3]. قال معروف الكرخي: رجاؤك لرحمة من لا تطيعه من الخذلان والحمق. وقال بعض العلماء: من قطع عضواً منك في الدنيا بسرقة ثلاثة دراهم لا تأمن أن تكون عقوبته في الآخرة على نحو هذا. وينبغي للمسلم أن يحرص على أن يتخلص من ديون الناس ومظالمهم فإن ما كان للعبد عند أخيه سيطلبه منه يوم القيامة لا محالة، فإن كانت له حسنات أخذ منها وإن لم يكن له حسنات أخذت من سيئاته وطرحت عليه وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه. وسنبين هنا الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة بإيجاز. أولاً: التسويف بالتوبة: والتوبة إلى الله من جميع الذنوب واجبة على كل مكلف كل لحظة كما يدل عليه قوله تعالى: (وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون) [سورة النور، آية: 31]. وكان صلى الله عليه وسلم وهو مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخرن يتوب إلى الله كل يوم مائة مرة. روى الأغر المزني قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس توبوا إلى الله فإني أتوب في اليوم إليه مائة مرة" [مسلم برقم 2702]. وقد بين صلى الله عليه وسلم أن التائب من الذنب كمن لا ذنب له [ابن ماجة برقم 4250 وإسناده حسن]. ومن أنجح حيل إبليس التي يحتال بها على الناس التسويف في التوبة فيوسوس للعاصي بأن يتمهل في التوبة فإن أمامه زمناً طويلاً ولو تاب الآن ثم رجع لا يمكن أن تقبل توبته بعد ذلك فيكون من أصحاب النار، أو يوسوس له بأنه إذا بلغ الخمسين أو الستين مثلاً عليه أن يتوب توبة نصوحاً ويلزم المسجد ويكثر القربات أما الآن فإنه في شبابه وزهرة عمره فليمتع نفسه ولا يشق عليها بالتزام الطاعات من الآن. هذه بعض مكائد إبليس في التسويف في التوبة. قال بعض السلف الصالح: أنذركم سوف، فإنها أكبر جنود إبليس، ومثل المؤمن الحازم الذي يتوب إلى الله من كل ذنب وفي كل وقت خوفاً من سوء الخاتمة ومحبة لله. والمفرط المسوف الذي يؤخر توبته كمثل قوم في سفر دخلوا قرية فمضى الحازم فاشترى ما يصلح لتمام سفره وجلس متأهباً للرحيل. أما المفرط فإنه يقول: كل يوم سأتأهب غداً حتى أعلن أمير القافلة الرحيل ولا زاد معه، وهذا مثل للناس في الدنيا فإن المؤمن الحازم متى ما جاء الموت لم يندم أما العاصي المفرط فإنه يقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت… ثانياً: طول الأمل: وهو سبب شقاء كثير من الناس حين يخدعه الشيطان فيصور له أن أمامه عمراً طويلاً وسنين متعاقبة يبني فيها آمالاً شامخة فيجمع همته لمواجهة هذه السنين ولبناء هذه الآمال وينسى الآخرة ولا يتذكر وإذا ذكره يوماً برم منه لأنه ينغص عليه لذاته ويكدر عليه صفو عيشه، وقد حذرنا منه الرسول صلى الله عليه وسلم، أشد التحذير فقال: "إن أشد ما أخاف عليكم خصلتان: اتباع الهوى وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فإنه يصد عن الحق، وأما طول الأمل فإنه الحب للدنيا" [رواه ابن أبي الدنيا بسند ضعيف]. فإذا أحب الإنسان الدنيا أكثر من الآخرة آثرها عليها واشتغل بزينتها وزخرفها وملذاتها عن بناء مسكنه في الآخرة في جوار الله في جنته مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. ويظهر أثر قصر الأمل في المبادرة إلى الأعمال الصالحة واغتنام أوقات العمر فإن الأنفاس معدودة والأيام مقدرة وما فات لن يعود وعلى الطريق عوائق كثيرة بينها صلى الله عليه وسلم حينما قال: "بادروا بالأعمال سبعاً هل تنظرون إلا إلى فقر منس أو غنى مطغ أو مرض مفسد أو هرم مفند أو موت مجهز أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة فالساعة أدهى وأمر" [الترمذي برقم 2408 وقال: حديث غريب حسن]. وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك" رواه البخاري 11/190-200]. وقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين إلى ما يبعد عنهم طول الأمل ويبصرهم بحقيقة الدنيا، فأمر بتذكر الموت وبزيارة القبور وبتغسيل الموتى وتشييع الجنائز وعيادة المرضى وزيارة الصالحين فإن كل هذه الأمور توقظ القلب من غفلته وتبصره بما سيقدم عليه فيستعد له وسنتكلم عن ذلك بإيجاز: أ - أما ذكر الموت دائماً فإنه يزهد في الدنيا ويرغب في العمل الصالح وعدم الركون إلى الشهوات المحرمة في الدنيا الفانية وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكثروا من ذكر هادم اللذات" [الترمذي برقم 2409 وقال: حديث غريب حسن ورواه ابن ماجة برقم 4258]. وعن ابن عمر قال: قال رجل من الأنصار: من أكيس الناس وأكرم الناس يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم استعداداً له أولئك هم الأكياس ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة" [رواه ابن ماجة برقم 4259 بسند ضعيف مختصراً. ورواه أيضاً ابن أبي الدنيا بإسناد صحيح جيد قاله العراقي في تخريج أحاديث الإحياء 4/451]. ثم يفكر الإنسان في الموتى ألم يكونوا أقوياء الأبدان يملكون الأموال ويأمرون وينهون، واليوم قد تسلط الدود على أجسادهم فنخرها وعلى عظامهم فبددها ثم يفكر هل له أن يسلم من الموت أم أنه سيصل إلى ما وصل إليه أولئك فيستعد لتلك الدار ويتأهب بالأعمال الصالحة فإنها العملة النافقة في الآخرة… ب - أما زيارة المقابر فإنها عظة بليغة للقلوب فإذا رأى الإنسان المساكن المظلمة المحفورة ورأى هذه النهاية التي يحثو فيها أحباء الميت عليه التراب بعد إدخاله في لحد ضيق وإغلاقه عليه بلبنات من طين ثم يرجعون عنه ويقتسمون أمواله ويتملكون مخصصاته وتزوج نساؤه وينسى بعد مدة يسيرة بعد أن كان صاحب الكلمة في البيت يأمر فيطاع وينهى فلا يعصى، فإذا زار المؤمن المقبرة وتفكر في ذلك أدرك فائدة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت" [مسلم برقم 976]. ج - أما تغسيل الموتى وتشييع الجنائز فإن في تقليب الجسد على خشبة المغسلة عظة بليغة إذ هو في حال حياته وقوته لا يستطيع أحد أن يقلبه ولا أن يدنو منه إلا بإذنه، وربما كان شديد البطش عظيم الهيبة وقد صار بالموت جسداً خامداً لا حراك به يقلبه الغاسل كيف يشاء. وقد كان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول والآخر لا عقل له، وكان عثمان رضي الله عنه إذا شيع جنازة ووقف على القبر بكى فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي إذا وقفت على القبر فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر منه وإن لم ينج منه فما بعده أشد" رواه أحمد الترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصححه. د -أما زيارة الصالحين فإنها توقظ القلب وتبعث الهمة فإن الزائر يرى الصالحين وقد اجتهدوا في العبادة وتنافسوا في الطاعة لا غاية لهم إلا رضى الله ولا هدف لهم إلا الفوز بجنته معرضين عن التفاني على الدنيا والاشتغال بها لأنها معوقة عن السير في ذلك الطريق الشريف، وقد أرشد الله نبيه أن يصبر نفسه مع هؤلاء: (واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطاً) [سورة الكهف: آية 28]. وقيل للحسن: يا أبا سعيد كيف نصنع أنجالس أقواماً يخوفوننا حتى تكاد قلوبنا تطير؟ فقال: والله إنك إن تخالط أقواماً يخوفونك حتى يدركك أمن خير لك من أن تصحب أقواماً يؤمنونك حتى يدركك خوف. ثالثاً حب المعصية وإلفها واعتيادها فإذا ألف الإنسان معصية من المعاصي ولم يتب منها فإن الشيطان يستولي على قلبه وتستولي على تفكيره حتى في اللحظات الأخيرة من حياته فإذا أراد أقرباؤه أن يلقنوه الشهادة ليكون آخر كلامه لا إله إلا الله طغت هذه المعصية على تفكيره فتكلم بما يفيد انشغاله بها وإليك بعض قصص هؤلاء. رجل كان يعمل دلالاً في السوق ولما حضرته الوفاة لقنه أولاده الشهادة فكانوا يقولون له قل: لا إله إلا الله فيقول أربعة ونصف أربعة ونصف. وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فقال: يا رب قائلة يوما وقد تعبت كيف الطريق إلى حمام منجاب وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله فجعل يغني [الجواب الكافي 96]. وربما أدركه الموت في المعصية نفسها فيلقى الله على تلك الحال التي تغضبه وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من مات على شيء بعثه الله عليه" [رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي]. رابعاً الانتحار: فإذا أصاب المسلم مصيبة فصبر واحتسب كانت له أجراً وإن جزع وتضايق من الحياة ورأى أن أحسن طريق له أن يتخلص به من هذه المشاكل هو الانتحار فقد اختار المعصية وأسرع إلى غضب الله وقتل نفسه بدون حق وقد روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعن نفسه يطعنها في النار" وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: شهد رجل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال لرجل ممن يدعى بالإسلام هذا من أهل النار فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالاً شديداً فأصابته جراحه فقيل له: يا رسول الله الذي قلت له آنفاً أنه من أهل النار فإنه قد قاتل اليوم قتالاً شديداً وقد مات فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إلى النار" فكاد بعض المسلمين أن يرتاب فبينما هم على ذلك إذ قيل له إنه لم يمت ولكن به جراح شديدة فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله ثم أمر بلالاً فنادى في الناس أنه لن يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وان الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر" [البخاري 6/125 ومسلم برقم 111]. بشائر تدل على حسن الخاتمة نبه النبي صلى الله عليه وسلم على بشائر تدل الخاتمة إذا كانت وفاة العبد مع واحدة منها كان ذلك فألا طيباً وبشارة حسنة منها: 1- نطقه بكلمة التوحيد عند الموت فقد روى الحاكم عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" [أبو داود 3116 والحاكم 1/351 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي]. 2- أن يموت شهيداً من أجل إعلاء كلمة الله قال تعالى: ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون. فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون. يستبشرون بنعمة من الله وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين) [سورة آل عمران آية 169-171]. 3- أن يموت غازيا في سبيل الله، أو محرماً بحج، قال صلى الله عليه وسلم: "من قتل في سبيل الله فهو شهيد ومن مات في سبيل الله فهو شهيد" رواه مسلم وأحمد، وقال صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقّعته ناقته: "اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" [مسلم برقم 1206]. 4- أن يكون آخر عمله طاعة الله فقد روى حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة ومن تصدق بصدقة ابتغاء وجه الله ختم له به دخل الجنة" [رواه أحمد 5/391]. 5- الموت في سبيل الدفاع عن الخمس التي حفظتها الشريعة وهي الدين والنفس والمال والعرض والعقل. عن سعيد بن زيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد" [رواه أبو داود برقم 4772 والترمذي برقم 1418و 1421]. 6- أن يموت صابراً محتسباً بسبب أحد الأمراض الوبائية وقد نبه النبي صلى اله عليه وسلم إلى بعضها فمنها: I- الطاعون: روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطاعون شهادة لكل مسلم" [البخاري 10/156-157]. II- السل: روى راشد بن حبيش قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قتل المسلم شهادة والطاعون شهادة، والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة والسل شهادة" [رواه أحمد 3/289]. ج- داء البطن: روى أبو هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن مات في البطن فهو شهيد" [رواه مسلم برقم 1915]. د- ذات الجنب: روى جابر بن عتيك عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وصاحب ذا الجنب شهيد" وسيأتي بتمامه بعد قليل. 7- موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها: روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: والمرأة يقتلها ولدها جمعاء شهادة يجرها ولدها بسرره إلى الجنة" [رواه أحمد 4/201و 5/323]. 8- الموت بالغرق والحرق والهدم: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء خمسة: المطعون والمبطون والغرق وصاحب الهدم" [الترمذي برقم 1063 وروى نحوه مسلم برقم 1915]. وعن جابر بن عتيك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء سبعة سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد والغرق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد والمبطون شهيد والحرق شهيد والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة" [رواه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وقال: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي]. 9- الموت ليلة الجمعة أو نهارها: روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر" [رواه أحمد 2/176 والترمذي برقم 1080 وقال: حديث غريب وليس إسناده بمتصل]. 10- عرق الجبين عند الموت: فقد روى بريدة عن الحصيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن يموت بعرق الجبين" [رواه الترمذي برقم 982 والنسائي 4/6 وسنده حسن]. خاتمة: وفي نهاية هذا اللقاء يحسن بنا أن نوجز الوسائل التي جعلها الله سبباً في حسن الخاتمة وهي: 1- تقوى الله في السر والعلن والتمسك بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فهو سبيل النجاة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [سورة آل عمران آية 102]. وأن يحذر العبد من الذنوب أشد الحذر فإن الكبائر موبقات وإن الصغائر مع الإصرار تتحول إلى كبائر وكثرة الصغائر مع عدم التوبة والاستغفار ران على القلب. قال صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقرات الذنوب كقوم نزلوا في بطن واد فجاء ذا بعود وجاء ذا بعود حتى أنضجوا خبزتهم وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه" [رواه احمد 5/331]. 2- المداومة على ذكر الله فمن داوم على ذكر الله وختم به جميع أعماله، وكان آخر ما يقول من الدنيا لا إله إلا الله نال بشارة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" [أبو داود 3116 والحاكم 1/351 وصححه الحاكم ووافقه الذهبي]. وروى سعيد بن منصور عن الحسن قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: "أن تموت يوم تموت ولسانك رطب من ذكر الله" [المغني لابن قدامة 2/450]. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم لقائك واجعلنا مع الذين أنعمت عليهم في جنتك وجوارك وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
.